كان موسم أصيلة الـ44 مناسبة للبحث في مستقبل المنطقة بعدما طرح الأمين العام لمنتدى أصيلة محمد بن عيسى عنوانا عريضا هو “الخواء السياسي” مستعيرا عبارة للأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الراحل.
كانت لي مداخلة في ندوة ذات عنوان عريض مرتبط بما سيكون عليه العالم العربي، أو العوالم العربيّة والمنطقة المحيطة في ضوء حرب غزّة.
قلت في مداخلتي التي أعجبت البعض ولم تعجب البعض الآخر:
كرست حرب غزّة التي شنتها “حماس” على إسرائيل وجود خارطة سياسيّة مختلفة في المنطقة. بات في الإمكان الحديث عن نظام إقليمي جديد ليس معروفا هل هو قابل للحياة أم لا في المدى الطويل؟
يطرح هذا التساؤل نفسه بعدما صارت “الجمهوريّة الإسلامية” في إيران تمتلك أوراقا تجعل منها قادرة على إلحاق أذى، ليس بعده أذى، بإسرائيل عبر ضربها من الداخل. أكثر من ذلك، في استطاعة إيران إشعال المنطقة كلّها، في حال قرّرت ذلك، بمجرد متابعة إطلاق صواريخ من جنوب لبنان في اتجاه الجليل أو ما هو أبعد من الجليل.
من الواضح في ضوء حرب غزّة، أن إسرائيل ما قبل الحرب، التي بدأت بانتصار كبير حقّقه مقاتلو “حماس”، ليست إسرائيل ما بعد تلك الحرب. أكّد يوم 7 تشرين الأول – أكتوبر 2023 ولادة هذا الواقع. أكّد الواقع الناتج عن الحرب أنّ الناطق باسم فلسطين لم يعد السلطة الوطنيّة في رام الله، بل أن وجه فلسطين هو المقاتل الذي ينتمي إلى “حماس” ومن يقف وراءها في غزّة وفي طهران. هذه هي الصورة الكبيرة للشرق الأوسط في مرحلة ما بعد حرب غزّة التي شنتها “حماس” تحت شعار “طوفان الأقصى”، وهو شعار لا يمكن الاستخفاف بمدى جاذبيته للبعض في الشارع العربي وفي الدول الإسلاميّة عموما.
قد تنتهي حركة “حماس”، كما قد لا تنتهي في ختام الحرب الدائرة، وهي حرب يبدو أنّها طويلة خصوصا في ضوء التعقيدات الناجمة عن احتجاز الحركة هذا العدد الكبير من الرهائن. لكنّ الثابت أنّ من انتهى فعلا هو السلطة الوطنيّة الفلسطينية. انتهى معها اتفاق أوسلو الذي ولدت هذه السلطة من رحمه. كذلك، انتهت إسرائيل التي عرفناها والتي كان يحكمها بنيامين نتنياهو مع وزراء، أقلّ ما يمكن وصفهم به أنّهم فاشيون، وزراء من طينة إيتمار بن غفير أو بتسئيل سموتريتش وغيرهما.
لكن اللافت يكمن في تطورات سبقت حرب غزّة ورافقتها. تصبّ هذه التطورات عند نقطة واحدة تتمثّل في أنّ إيران استطاعت، عبر ميليشياتها المذهبيّة، استكمال سيطرتها بشكل كامل على القرار في العراق وسوريا ولبنان وقسم من اليمن. جاءت حرب غزّة لتؤكد أن “حماس” السنّية لا تخرج عن دائرة التبعيّة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، بل هي استثمار ناجح من ضمن استثماراتها في منطقة واسعة.
في اليمن، أثبتت إيران أنّ للحوثيين كيانا خاصا بهم في شبه الجزيرة العربيّة. لدى الإيرانيين كيان يتفاوضون من خلاله مع دول العالم، بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة من موقع قوّة. خلافا لكلّ ما قيل ويقال عن وجود هامش للمناورة لدى الحوثيين (جماعة أنصارالله)، فإنّ قرارهم إيراني مئة في المئة. هذا ما كشفته الزيارة الأخيرة التي قام بها “وفد صنعاء” إلى الرياض. في المحادثات مع الجانب السعودي، رفض الوفد الحوثي دور “الوسيط” الذي تستطيع المملكة لعبه من منطلق أن المملكة “طرف” في اليمن. معنى ذلك رفض أي تسوية سياسية أو حل سياسي بين اليمنيين. شمال اليمن قاعدة إيرانية لا أكثر.
في العراق، لم يعد سرّا أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” صارت صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في هذا البلد المهم من جهة وأن المطلوب من حكومة محمّد شياع السوداني من جهة أخرى تمويل المشروع التوسعي الإيراني، بما في ذلك قواعد عسكريّة لـ”الحشد الشعبي” على الحدود العراقية – السعوديّة والعراقيّة – الأردنيّة. من يحكم العراق في الوقت الحاضر هو ميليشيات “الحشد الشعبي” الموالية لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”. مثلها مثل “الحرس الثوري” في إيران، بدأت هذه الميليشيات تتغلغل في الاقتصاد العراقي بغية تحولها إلى جزء من هذا الاقتصاد.
في سوريا، ليس ما يظهر مدى السيطرة الإيرانية على ما بقي من النظام الأقلّوي القائم أكثر من فشل هذا النظام في الإقدام على أي خطوة ذات طابع إيجابي في أعقاب حضور بشّار الأسد القمة العربيّة الأخيرة التي انعقدت في جدّة. لا تزال سوريا، في جزء منها، “ساحة إيرانيّة” لا أكثر ومنطلقا لتهريب المخدرات إلى دول الخليج العربي، عبر الأردن، وأسلحة إلى الأردن نفسه. لم يتغيّر شيء في سلوك النظام السوري الذي يثبت كلّ يوم أنّه تحت السيطرة الإيرانيّة.
ليس ما يدعو إلى شرح طويل لوضع لبنان حيث حلّت دولة “حزب الله” مكان الدولة اللبنانيّة سعيدة الذكر. دمّر الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني معظم مؤسسات الدولة اللبنانية والنظام المصرفي في ما كان يسمّى “الجمهوريّة اللبنانيّة”. يعيش شعب كامل في الوقت الحاضر تحت رحمة ما تريده إيران وهل تعطي ضوءا أخضر لفتح جبهة جنوب لبنان… أم لديها حسابات أخرى؟
هل النظام الإقليمي الجديد الذي تتحكّم به “الجمهوريّة الإسلاميّة” قابل للحياة؟ لا جواب عن مثل هذا السؤال. لا لشيء سوى لأنّه يصعب التكهن، أقلّه في الوقت الحاضر، بما ستؤول إليه حرب غزّة. تعبّر الحرب في جانب منها عن الجهل الإسرائيلي من جهة والظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني من جهة أخرى بسبب استمرار الاحتلال.
استطاعت إيران الاستثمار في الظلم التاريخي اللاحق بالشعب الفلسطيني إلى أبعد الحدود. ليس في الوقت الحاضر مكان للسياسة. لا مكان سوى للمزيد من التصعيد والدم مع ما يعنيه ذلك من إطالة لعمر النظام الإقليمي الجديد…