بدأت الخلافات العقائدية والسياسية بين الحوثيين وبقية أجنحة الزيدية السياسية (أو الهاشمية السياسية) في اليمن منذ تأسيس النواة الأولى لمليشيا الحوثيين، وتمثل ظاهرة التصفيات الجسدية والإقصاء التي مارستها مليشيا الحوثيين بحق بعض رموز الهاشمية السلالية، أبرز أعراض الخلافات المتفاقمة بين أجنحة الهاشمية السياسية في اليمن، أضف إلى ذلك الخلافات التي منشؤها عقدي بحت، وهي خلافات بدأت منذ لحظة تأسيس المليشيا الحوثية تحت لافتة "تنظيم الشباب المؤمن" وما تزال قائمة حتى يومنا هذا.
من: اليمن الآن
تعتقد مليشيا الحوثيين أن التصفيات والاغتيالات والتهميش والإقصاء بحق الأجنحة المختلفة في الهاشمية السياسية سيمكنها من ضمان احتكار غنائم الحرب والانقلاب، وجعل أتباع المذهب الزيدي في خدمة عائلة آل الحوثي، أو جناح صعدة، الذي يسخر من جناح صنعاء وغيره، ويصفه بـ"هواشم الطيرمانات"، ويرى أنه غير كفؤ وغير مؤهل للمشاركة في الحكم وغير جدير بالغنائم، وهي غنائم مصدرها السلب والنهب والإتاوات الجائرة التي تفرضها مليشيا الحوثيين على المواطنين والتجار والمزارعين في مناطق سيطرتها.
والمتأمل في طبيعة الصراعات الحالية بين أجنحة الهاشمية السياسية، سيجد وكأن الأمر قد حسم لمصلحة الحوثيين، وهذا صحيح نوعا ما، لأن التصفيات والاغتيالات بدأت في وقت مبكر من الانقلاب، فضلا عن الدعم الإيراني المستمر لجناح صعدة، والخبرات الإيرانية التي تعمل على التمكين لمشروع الحوثيين.
لكن من المؤكد أن ثمة نارا تغلي في النفوس، وأن أجنحة الهاشمية السياسية المتضررة من مليشيا الحوثيين تعد العدة للانتقام، ولعل أبرز ما يعيقها عن ذلك يتمثل في عامل الوقت، فأجنحة الهاشمية السياسية ترى أن أي صراعات بينية حاليا ستؤثر على المشروع المشترك للجميع وهو عودة الإمامة، وبالتالي فالتصفيات والصراعات البينية ترى السلالة ضرورة تأجيلها إلى ما بعد مرحلة التمكين للمشروع الإمامي، رغم عدم يقينها بنجاح ذلك المشروع.
وهذا لا ينفي بعض أوجه الخلافات، فهناك استقطاب حاد للمقاتلين والقبائل، لكنه استقطاب كامن ولا يظهر بشكل مرئي أمام المجتمع، ولا شك أن جناح صعدة ما يزال يتخوف من بقية أجنحة الهاشمية السياسية، بدليل أن عبد الملك الحوثي، زعيم المليشيا، لم يجرؤ على دخول العاصمة صنعاء منذ بداية الانقلاب وحتى الآن، ولا شك أن عملية اغتيال شقيقه في صنعاء، إبراهيم الحوثي، في أغسطس 2019، يقف وراءها جناح صنعاء، لا سيما أن القتيل كان ممسكا بالملف المالي للمليشيا، وهو الملف الذي يشكل محور خلاف ونزاع بين أجنحة الهاشمية السياسية، لغزارة الأموال المنهوبة، ومحاولة جناح صعدة الاستئثار بها وإعطاء الفتات للأجنحة الأخرى وفق ما تقدم من خدمات وتضحيات لأجل عائلة آل الحوثي.
- بداية الخلافات
عندما أسس بدر الدين الحوثي، ورفيقه مجد الدين المؤيدي، ما سمي بـ"اتحاد الشباب المؤمن"، عام 1986، سرعان ما دب الخلاف بين الرجلين، وتسبب ذلك بأول انشقاق في "اتحاد الشباب المؤمن"، إذ خرج منه المؤيدي ومعه مجموعة كبيرة من رفاقه ومريديه، وبقيت مجموعة صغيرة مع بدر الدين الحوثي. وأما سبب الخلاف فيكمن في أن بدر الدين الحوثي أراد أن يجعل من ذلك الاتحاد وسيلة لتلميع المذهب الاثنى عشري ونظرية "الولي الفقيه" المعمول بها في إيران، بيد أن ذلك أغاض مجد الدين المؤيدي، الذي كان يعتبر نفسه ما يسمى "الإمام القاعد"، وفق النظرية التي أقرها رموز الزيدية للخروج من إشكالية غياب الإمامة في "البطنين"، بعد أن أطاحت ثورة 26 سبتمبر 1962 بالنظام الإمامي في اليمن.
وعلى إثر الخلاف المبكر بين بدر الدين الحوثي ومجد الدين المؤيدي، دبت الخلافات بين جماعة الحوثيين والهاشمية السياسية بشكل عام، ودفع ذلك الرموز الفقهية للهاشمية السياسية إلى إصدار عدد من الفتاوى المؤيدة لنظام علي عبد الله صالح، أثناء حروب صعدة الست، ومع ذلك فقد ظل الخلاف قائما بين الحوثي والمؤيدي اللذين ظلا يتنازعان المرجعية الدينية، وزاد من حدة الخلافات ببنهما تطلع بدر الدين الحوثي للإمامة وغيرته الشديدة من منافسه مجد الدين المؤيدي وارتمائه في أحضان إيران طمعا في دعمها له، وكان الحوثي يروج للمذهب الاثنى عشري، بينما المؤيدي يشدد على تمسكه بالمذهب الجارودي/الهادوي.
وبما أن غالبية أعضاء ما كان يسمى "مجلس حكماء آل البيت" أبدوا مساندتهم للمؤيدي، فقد انتهى الصراع بين الحوثي والمؤيدي بانشقاق بدر الدين الحوثي عن المجلس عام 1994، وسفره هو وأفراد من أسرته إلى إيران، وظلوا هناك بضعة أعوام، ثم عادوا إلى اليمن ليؤسسوا النواة الأولى للجماعة التي تمكنت فيما بعد من نشر المذهب الاثنى عشري في اليمن وجرجرة أتباع المذهب الزيدي إليه، واستفادت المليشيا الحوثية من تيار الهاشمية السياسية ككتلة بشرية لها حضور كبير في الدولة وفي مؤسسة الجيش والأمن، ونجحت في احتواء عدد كبير منهم وتجنيدهم لمصلحة المشروع الحوثي وخدمته.
وبالرغم من أن الهاشمية السياسية كانت قد نسجت علاقات سرية مع إيران لإعادة إحياء مشروع الإمامة في اليمن ودعمه، إلا أن مليشيا الحوثيين تمكنت من تحويل الدعم الإيراني لمصلحتها وحدها، وبدأ الدعم الإيراني للحوثيين بعد زيارة وفد ما يسمى "مجلس حكماء آل البيت" إلى طهران، في تسعينيات القرن الماضي، وكان بدر الدين الحوثي ضمن وفد المجلس، وأظهر خلال لقاءاتهم مع قيادات إيرانية حماسا كبيرا للمشروع الإيراني، وطموحا في تصدير الثورة الإيرانية، وأبدى رغبته في نقل التجربة الإيرانية إلى اليمن، ولعله أقنع القيادة الإيرانية بمشروعه فكريا وعسكريا، وكان يمثل ذراع إيران لاختراق الزيدية السياسية، أو الهاشمية السياسية، وتطويعها لمصلحة إيران، وصبغها بالفكر الرافضي الاثنى عشري.
- تنامي الصراع بين الحوثيين والهاشمية السياسية
عندما تمكن الحوثيون، عبر ما سمي "منتدى الشباب المؤمن"، من نشر المذهب الاثنى عشري في المناطق التي ينتشر فيها المذهب الزيدي، عمد بعض الرموز الفقهية للهاشمية السياسية إلى تفنيد الفكر الذي يروج له الحوثيون، بسبب حمله لنظرية "الولي الفقيه"، ورأوا أن ذلك يشكل خطرا على الهاشمية السياسية. وردا على ذلك، مهرت فتوى البراءة من "منتدى الشباب المؤمن" بتوقيع مجد الدين المؤيدي، في 2 ربيع أول 1417 هـ، واتهمهم الموقعون على الفتوى بأنهم أكبر من يحرف المذهب الزيدي ويخالف مناهجه.
بعد ذلك، دخل بدر الدين الحوثي في خلاف شديد مع فقهاء الزيدية، الذين أبدوا رفضهم للمذهب الرافضي الاثنى عشري، وعارض الحوثي (الأب) فتوى فقهاء الزيدية بشدة، التي أكدوا فيها أن شرط النسب الهاشمي و"البطنين" للإمامة صارت غير مقبولة اليوم، وأنها كانت في ظرفها التاريخي، وأن الرئاسة وقيادة شؤون الأمة حق من حقوق المواطنين جميعا.
لكن الحوثيين واصلوا نهجهم الجديد، المتمثل في الانتقال من الزيدية إلى الاثنى عشرية، بذريعة نقل الزيدية من التقليدية إلى الإحيائية، مستقوين بالدعم الإيراني، ونهم إيران لتصدير الثورة الخمينية. وعندما تفاقمت الخلافات بين الحوثيين الذين تكتلوا كتيار مستقل، وبين تيار الهاشمية السياسية، تدخلت رموز الهاشمية السياسية للصلح بين الطرفين، مثل: الدكتور محمد عبد الملك المتوكل، وأحمد الكحلاني، واللواء يحيى المتوكل، والدكتور أحمد شرف الدين، وانتهى الصلح بالاتفاق مع الحوثيين على استمرار نشاطهم وفق المذهب الزيدي.
لكن يبدو أن الحوثيين عملوا بذلك الاتفاق مؤقتا، ثم عاودوا استمرار نشاطهم كما كان، أي التبشير بالاثنى عشرية، وكبروا سريعا، حتى صاروا أكبر من تيار الهاشمية السياسية ورموزه التقليدية، ولهم أفكارهم ومشروعهم الخاص، مستندين إلى الدعم الإيراني القوي، وبرزوا كمليشيا مسلحة ومتطرفة، ولم يعد بإمكان تيار الهاشمية السياسية من وقف تمددها في مناطق المذهب الزيدي، بل فقد نجحت مليشيا الحوثيين في توظيف نشاط مجلس الهاشمية السياسية لمصلحتها، ومكنها ذلك من الحصول على الغطاء الزيدي لمشروعها، رغم أنها صارت اثنى عشرية، ولا علاقة لها بالمذهب الزيدي.
- خلافات سياسية وعقائدية
وبالعودة إلى طبيعة الخلافات بين الحوثيين والهاشمية السياسية، وما جرى بين الطرفين من صلح وتفاهمات، يتضح أن الخلافات أخذت مسارين مختلفين، الأول عقائدي، والثاني سياسي. يتمثل المسار العقائدي في خلافات الحوثيين مع جناح مجد الدين المؤيدي ومريديه، بينما المسار السياسي كان مع تيار الهاشمية السياسية الذي يقود تنظيم "مجلس حكماء آل البيت"، وهو تنظيم سري يهدف للإطاحة بالنظام الجمهوري وإعادة الإمامة البائدة، وكان ذلك التنظيم يرى أن الحوثيين خرجوا عن الزيدية، واستبدلوا بها الاثنى عشرية، وأنهم يشكلون خطرا على "الهاشمية السياسية" وخططها للإطاحة بالنظام الجمهوري، ويخشى من استئثار الحوثيين بالسلطة وفق نظرية "الولي الفقيه".
وبالرغم من أن بعض مراجع الزيدية، الذين كانوا على خلاف مع جماعة الحوثيين، توصلوا معها إلى اتفاق مشترك، في فبراير 2012، على ما عرف بـ"الوثيقة الفكرية"، لطي حقبة من الخلافات، لكن بعد انقلاب مليشيا الحوثيين على السلطة، وممارساتها الإقصائية التي شملت حتى بعض أجنحة الهاشمية السلالية واغتيال أبرز رموزها، تسبب ذلك في عودة الخلافات من جديد.
وإذا كان من الصعب حاليا على أي جناح في الهاشمية السياسية خوض معركة ضد الحوثيين، باعتبار أنها ستكون محسومة لمصلحة الحوثيين، لكن تنامي الخلافات والضغائن والأحقاد قد يدفع بعض الأجنحة للتكتل ضد مليشيا الحوثيين (جناح صعدة)، والانتقام منه، ويبدو أن مسألة حسم الخلافات البينية متروكة لعامل الزمن وتوفر الظروف المناسبة لها.
صحيح أن مليشيا الحوثيين تحكم قبضتها حاليا، وتعمل على خنق الأجنحة السلالية ومحاصرتها ومراقبتها، لكنها مع ذلك تواجه رفضا وضغطا شديدين من جانب قطاع كبير من الزيدية التقليدية، على رأسهم الفقيه محمد عبد العظيم الحوثي، والفقيه يحيى الديلمي، فمحمد عبد العظيم الحوثي يرى أن الحوثية ليست حركة علمية، بخلاف المذهب الزيدي الذي يرى أنه "مذهب علمي ديني"، ويصف الحوثيين بأنهم "مجرد دخلاء يحملون الطقوس الخمينية والاثنى عشرية"، ويرى أن عبد الملك الحوثي ليس مؤهلا لقيادة الزيدية أو تمثيلها.
أيضا هناك رفض وممانعة للحوثيين من داخل المناطق الزيدية، ومن نماذج ذلك، البيان الذي صدر في يوليو 2019 عن بعض فقهاء المذهب الزيدي ومراجعه في صعدة، وأعلنوا فيه لجميع أتباعهم ضرورة مقاطعة صلاة الجمعة وعدم إقامتها، انطلاقا من القاعدة الفقهية الزيدية التي تقول إن صلاة الجمعة لا تقام في ظل سلطان ظالم وجائر، واعتبروا أن سلطة الحوثي ظالمة وجائرة.
الخلاصة، تجد مليشيا الحوثيين الإرهابية نفسها في مواجهات مع أطراف كثيرة، فهي تلقى رفضا وممانعة من داخل مناطق المذهب الزيدي، ومرفوضة من جانب المحيط الإقليمي لليمن الذي لن يسمح بسيطرتها الكاملة والأبدية على البلاد، وهي أيضا منبوذة من قِبَل المجتمع الدولي الذي يراها مليشيا إرهابية متطرفة ظلامية لا تنتمي للعصر الحالي وتشكل خطرا على أمن اليمن والإقليم والمصالح الدولية عبر مضيق باب المندب، وأما الشعب اليمني فهو يمقت تلك المليشيا ولن يقبل بعودة الإمامة مهما كلفه ذلك، فالغضب الشعبي يتراكم، والغليان تزداد حدته يوما بعد يوم، وسيأتي اليوم الذي تندلع فيه ثورة شعبية ضد المليشيا الحوثية، وتطوي صفحة الإمامة إلى الأبد.
ولعل الخوف من الثورة الشعبية وعدم رسوخ الإمامة هو ما يجعل أجنحة الهاشمية السياسية تؤجل حسم الخلافات فيما بينها بالسلاح، لا سيما أنها ليست متيقنة من نجاح الانقلاب ورسوخه، ومع ذلك تظل احتمالات الحرب البينية واردة، فقد سبق أن اندلعت اشتباكات بين الحوثيين وأتباع محمد عبد العظيم الحوثي، وقد تتكتل الأجنحة السلالية المتضررة من الحوثيين (جناح صعدة) وتعلن الحرب عليهم، أي أن الاحتمالات كلها واردة.